الْيَسَـار الْمَغْرِبـِي والْمَوَاقِـف الْمُنْتَهِيَـة الْصَّلَاحِيَـة



في اليوم الذي حققت فيه أحزاب اليسار الفرنسية المنضوية في إطار (الجبهة الشعبية الجديدة) انتصارا شعبيا في الانتخابات التشريعية فالدلالة التي يصح استخلاصها من هذه النتيجة هي حضور حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة في قلب الكثير من السجالات ولم يكن غريبا أن قوى اليسار المتضامنة مع غزة حصدت معدلات تصويت عالية داخل الأوساط المتعاطفة مع القضية الفلسطينية وسارعت إلى إعلان العزم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية فور تسلمها السلطة، وإذا كان من المبكر الافتراض بأن موجة رياح اليسار أخذت تعلو في أوروبا بعد "إسبانيا" و"بريطانيا" و"فرنسا" فإنه من المشروع قراءة اتجاه هذه الرياح نحو بلدنا ويسارينا. في ذات اليوم قررت أن أخرج من رداءة تلك المواقف المنتهية الصلاحية والساذجة التي كنت عن قناعة مؤمنا بتبنيها باسم التغيير بحيث صرت أشعر بأنني أبيع معلبات فاسدة مر وقت استهلاكها وتحولت من يساري مؤمن بمبادئ الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية و المساواة إلى مخبر حقير يتجسس على الحروف والنقاط، فبدأ شيء من اليأس والمرارة يملئني خاصة لما تساءلت مع نفسي عن فائدة ما كدست من أحلام طوال سنوات نضالي في صفوف اليسار؟. سنتساءل كيساريين في هذا اليوم وبكل هدوء وفي هذا الظرف الحرج لماذا هذا الغياب الآثم لعدد من يساريينا عن أوجاع وقضايا وطنهم وشعبهم ومستقبل أبنائه وبناته؟ ولماذا هذا الانكفاء عن ممارسة دورهم التعبوي؟ مع أن غالبيتهم ـ ما شاء اللهُ - نجوم في التقاط الصور في الندوات والتجمعات وهم يتشدقون وينظرون عن السياسة وعن دور اليسار الرائد بمجتمعه ووطنه ويؤكدون بلقاءاتهم وندواتهم أن من واجب اليساري الغيور وبدواعي شرف الانتماء أن يكون مدافعا بقلمه وصوته عن قضايا وطنه أولا وقبل كل شيء ، يمكن القول إن اليسار المغربي اليوم وفي الأحوال كلها حافظ على خطاب دائري عقيم ولغة تسفيهية وجدل أجوف مستخدم مصطلحات العمالة والتخوين وعازف عن أي فعل إيجابي يمكن أن يطرح بديلا لائقا لتبنيه والبناء عليه وبالإضافة إلى تلك بات يساير الارتزاق متمرس في أيديولوجيته طالبا من مخالفيه الاصطفاف خلف تياره والانضمام إليه والحديث برأيه وربما استخدام تعبيراته وهو جاهز باتهام مخالفيه بمواقف كالعمالة إن هم لم يتفقوا مع طروحاته وأفكاره . أزمة اليسار المغربي احتلت دوما مكانة مرموقة في مسلسل التأزيم المعتاد فثلة من اليساريين حيدت نفسها وقلمها وصوتها عن الرصد وقرع ناقوس الخطر لمجمل الوقائع والقضايا الساخنة على رأسها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لسبب قد يكون أسه الخوف أو عدم القناعة أو الكفر بالهوية الوطنية من الأساس أو لغاية مبيتة بنفس يعقوب، ففي اللحظة التي يشكل فيها اليسار الكتلة الواعية الفاعلة في المجتمع ومصدر قوته الحقيقية وطليعته القادرة على تشخيص الوقائع وكشف الخلل واجتراح الحلول وطرح المبادرات وصولا إلى التغيير الإيجابي المطلوب أفردوا المساحات الكبيرة للحديث عن أزمتهم الخاصة موضحين آثارها وتداعياتها عليهم معللين ذلك بمواقف تحكم حصارا حول اليسار(الاستبداد السياسي، الرأي العام غير المستنير... )،فمثل هذه المواقف المنتهية الصلاحية إنما هي بمنزلة تنازل مقصود لدور اليسار المدوّر كالرصيد المدور بانتظار ما ستسفر عنه الأحداث من تطورات ونتائج وعندها يصبغ وجهه وقلمه وصوته بالتلوين الذي يشاء ليضع قدمه من جديد على السكة التي يريد ، إن من أبسط واجبات اليسار الذود عن قضايا الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية والوقوف في وجه المرجفين أصحاب الأقلام المأجورة والوجوه المسفوحة وأرباب الأصوات والمواقف والقنوات المستلبة . إن اليساريين في هذا الزمان المغربي البئيس يرون مفهوم الثورة كما لم يره يساري في العالم فهي الشارع الصاخب المليء بالرؤوس الحامية والفارغة وبالحطام وأشلاء البشر والحرائق ومثلهم مثل منتهزي الفوضى من تجار الدين الذين يضفون على أنفسهم ألقاباً وتوصيفات ولا يرون في الثورة فعلا تاريخيا بمقومات وشروط وأهداف تبدل طريقة حياة الناس إلى الأرقى والأكثر مدنية ولو سلما لا على الأوضاع والأكثر همجية وبالدم والموت حصرا، نقرأ اليوم ليساريين مغاربة تنكرهم لماضيهم السياسي والفكري ويتخذون مواقف مخزية ضد أوطان تدمر فيرون في المتآمرين محررين وفي الغزاة مناصرين ولا يفرون بالقصد بين وطن يحتاج إلى ديمقراطية وديمقراطية لا تكون إلا بوطن فهؤلاء يرون في السياسة مجرد تراكم من المواقف يتزايدون بها على بعضهم البعض حتى وهي مواقف منتهية الصلاحية. فاليوم لم يعد لليسار بالمغرب ثمة وقت للتسكع ثقافة أو فكرا ولا حتى في المقاهي وعلى الأرصفة ولم يعد ثمة جدوى لمراكمة المزيد من المواقف المنتهية الصلاحية فوق ما تراكم منها ويكاد أن يتعفن ولم يعد ثمة هوامش وأرصفة للحياد أو الصمت واستخدام حاسة النظر فحسب في تأريخ ما يجري وتسجيل وقائعه كما لو أنه يدور في بلاد الواق واق، لا وقت لحياد لمؤرخ منهم ولا لحكمة الفيلسوف ولا لعزلة اليساري الزاهد نكون جميعا أو لا نكون، فاليوم ثمة لحظة فقط لمحاكمة عقلية يجريها كل من يتبنى الفكر اليساري بينه وبين ذاته بين أن يكون يساريا ملتزما مبدعا ورائدا ومبادرا وبين أن يتحول إلى قرص مضغوط على رف مهمل ومغبر أو في جهاز كمبيوتر لا يجيد سوى اللغو والتكرار والاجترار، اليوم ثمة لحظة فقط ليراجع كل منكم المواقف والرؤى المنتهية الصلاحية فلا تعود الثورة فوضى من دم وركام بل حياة جديدة متجددة ولا تعود الديمقراطية صناديق وطوابير وأوراقا بيضاء بل وعيا وسلوكا أولا ولا يعود الوطن سوق بازارات ومساومات بل حرية وسيادة واستقلالا. عبد الإله شفيشو / فاس




  • Sami
    مقال ممتاز
  • عبد الاله شفيشو
    هوية اليسار على اختلاف مشاربه أنه يلتقي في النهاية على فكرة "الثورة" على الحاكم المستبد ويقفون في صف الجماهير، لكني أعتقد أن هوية اليسار المغربي ما زالت على حالها فالقادة والزعماء والمنظرين ما زلوا يؤمنون بأن الاشتراكيّة والديمقراطيّة صنوان، وأن السلطة هي المسألة المركزيّة ، وأن الحزب هو الضمير الجمعي للشعب،
  • Ahmed
    المشكلة أن اليسار عندما يحصل على السلطة يتخلى عن شعاراته ويتبع سياسة أكثر يمينية. وخير مثال عبد الرحمان اليوسفي الذي باع قطاعات حيوية للدولة وكذلك اليسار في فرنسا وابريطانيا